صفحه اصدارات الشاعر والاديب. نصر الدين يوسف
♕♕♕♕
لؤلؤةُ الجمرِ... في
صَدَفةِ الصّمتْ
»»»»»»
هي لؤلؤةٌ لا كاللآلئ، جمرُ الزمانِ تجمّدَ في كيانِها
تتوهّجُ بنورِ القداسةِ حيناً، وحيناً بلهيبِ مَنْ يَريدُها
مُلقاةٌ على شاطئِ التاريخِ العاصفِ، وحيدةً إلا من دُخانِ أنينِها
وصدَفَتُها -يا للأسفِ- صمتٌ مُطبقٌ، نسجَهُ خوفُ السامعينَ لحينِها.
غربانُ الليلِ تحومُ حولَ وهجِها الأخّاذِ، تطمعُ في ابتلاعِ الضياءِ المتبقي
تنهشُ من أطرافِها المُقدّسةِ، وتُدَنّسُ طُهرَها بأقدامِ الرّياءْ
لا حارسَ لها إلا ريحُ الذكرياتِ وأشباحُ عهودٍ مضتْ
والبحرُ الكبيرُ -مَنْ كانَ يُفترضُ بهِ الحمايةُ- يُراقبُ في سُباتٍ أو استياءْ.
مُحبّوها الكثيرونَ، المنتشرونَ على ضفافِ العالمِ الواسعِ الأرجاءْ
يُقيمونَ مآتمَ الكلامِ في قصورِ الأحلامِ، ويُعلّقونَ قناديلَ الرجاءْ
يرسلونَ صلواتٍ مُعطّرةً ببخورِ العجزِ، ودموعاً لا تُطفئُ نارَ البلاءْ
كأنّ عشقَ اللؤلؤةِ يُكتفى فيهِ بالتغنّي بجمالِها أو لعنِ الأعداءْ.
هل أُصيبَ النظرُ بالعمى الطوعيِّ فلا يُبصرُ الرمادَ الذي يكسو وجهَها؟
أم أن القلوبَ تيبّستْ، فصارتْ أثقلَ من مرساةٍ تُعيقُ سفينةَ نُصرَتِها؟
الأيدي التي كانَ يُنتظرُ منها أن تمتدَّ لانتشالِها من قبضةِ الغاصبِ اللعينْ
صارتْ مُنشغلةً بتصفيقٍ ذاتيٍّ أو عدِّ النجومِ في سماءِ التخمينْ.
والصدأُ الذي ينخرُ في مكنونِ الكيانِ، يا صديقي، هو الداءُ الأعظمُ الذي يسبقُ ضياعَ المكانْ
حينَ تُصبحُ نيرانُ العزيمةِ مجرد رمادٍ تذروهُ رياحُ الهوانْ
ويُصبحُ ظلُّ الخوفِ سيداً يُطاعُ، والصمتُ الجاثمُ أغنيةَ الأمانْ
عندها، لا تسألْ عن لؤلؤةٍ أُطفِئَ جمرُها، بل عن جوهرٍ تلاشى قبلَ الأوانْ.
فكأنما الأرواحُ هي ما استُبيحَ، لا حجراً يُداسُ، ولا جُدرانْ.
أنا هُنا، نقطةُ حبرٍ تحاولُ أن ترسمَ صرخةً على جدارِ النسيانْ
لا أملكُ جيشاً من الكلماتِ يُحرّرُ، بل سؤالاً يمزّقُ أستارَ الكتمانْ
متى تُكسرُ صدَفةُ الصمتِ هذهِ، لا بيدِ القدرِ بل بإرادةِ الإنسانْ؟
ومتى يُدركُ المُحبّونَ أن اللؤلؤةَ لا تحتاجُ رثاءً بل فعلَ إيمانٍ يتّقدْ؟
ليستْ مُجرّدَ حجرٍ كريمٍ تُزيّنُ بهِ تيجانُ التاريخِ أو قصائدُ الشُعراءْ
بل هي شاهدةٌ على معركةِ الوجودِ بين نورِ الحقِّ وظلمةِ الأهواءْ
فإمّا أن يستيقظَ الوعيُ من غفوتهِ الطويلةِ ليُعانقَ فجرَ العلياءْ
وإمّا أن تظلَّ لؤلؤةُ الجمرِ تخبو في صَدَفةِ الصمتِ، وتنتظرُ... حُكمَ السماءْ.
____بفلمي:
نصر الدين يوسف
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
صَدى النّاي... في
مدينةِ الزّجاج
»»»»»»
أسمعُ في صمتِ الليلِ، أنيناً من بعيدْ
كأنهُ نايٌ قديمٌ، يعزفُ لحنَ الفقيدْ
فقيدُهُ ليس شخصاً، بل "حقيقةٌ" ضائعةْ
في أزقّةِ مدينةٍ، جدرانُها من جليدْ.
مدينةُ الزجاجِ هذهِ، برّاقةٌ من الخارجْ
تعكسُ ألفَ وجهٍ، لكن لا وجهَ صادقْ
كلُّ نافذةٍ فيها عينٌ تراقبُ جارتَها
والقلوبُ خلفَ الزجاجِ، كأحجارِ البنادقْ.
أبحثُ بينَ شظايا "أحلامٍ" مكسورةْ
عن "بذرةِ دفءٍ" واحدةٍ، أو "بسمةٍ" مأسورةْ
فالهواءُ هنا مُشبّعٌ بـ"برودةِ المنطقْ"
والعواطفُ تُعتبرُ "أمراضاً" خطيرةْ.
على أرصفتِها، تماثيلُ من "ضبابٍ" مُتجمّدْ
كانتْ يوماً بشراً، بـ"نبضٍ" يتجدّدْ
لكنَّ "صقيعَ الروتينِ" و"خوفَ الاختلافْ"
حوّلَهُمْ أطيافاً، لا تُعطي ولا تمتدّْ.
في ساحةِ المدينةِ، "ساعةٌ" بلا عقاربْ
تُعلنُ عن "زمنٍ" أبديٍّ، مُفرغٍ من المآربْ
الكلُّ يركضُ حولَها، في دوامةٍ عمياءْ
لا يدري من أينَ أتى، ولا إلى أينَ هو ذاهبْ.
أطفالُ هذهِ المدينةِ، يلعبونَ بـ"دمىً إلكترونيةْ"
تُلقّنُهُمْ "لغةَ الأرقامِ" و"قوانينَ الجاذبيةْ"
لكنها تنسى أن تُعلّمَهُمْ "أبجديةَ القلبْ"
أو كيفَ "يُعانقُ" المرءُ "روحاً" شقيّةْ.
أحاولُ أن أُشعلَ "قنديلاً" من "شعري" في هذا الظلامْ
لكنَّ "رياحَ السخريةِ" و"أصواتَ اللوّامْ"
تسعى جاهدةً لإطفاءِ "جمرتِهِ" الصغيرةْ
فـ"النورُ" هنا يُعتبرُ "خروجاً" عن النظامْ.
صوتُ الناي يرتفعُ، يخترقُ "جدارَ الصمتْ"
يحملُ "سؤالَ الوجودِ" و"أنينَ ما قدْ فُتّْ"
هلْ من "أذنٍ" تسمعُ في هذه المدينةِ الصمّاءْ؟
أمْ أنَّ "الصدى" نفسَهُ، قدْ ملَّ وملّتْ؟
أُمسكُ بـ"خيطِ أملٍ" رفيعٍ، كشعرةِ قمرْ
وأُحاولُ أن أنسجَ منهُ "جناحاً" للسفرْ
سفرٌ ليسَ خارجَ أسوارِ هذه المدينةْ
بلْ "داخلَ" كلِّ "روحٍ" هنا، لعلّها تستقرْ...
...وتتذكّرُ "لحنَ الناي" الأولَ، قبلَ أن يضيعَ في "ضجيجِ الحجرْ".
--- بقلمي /
نصر الدين يوسف
♕♕♕♕♕♕♕♕♕
لا تَسْأَلُوا عَنْ تُرَابِ الأَرْضِ...
»»»»»»»
لَا تَسْأَلُونِي عَنْ حِجَارَةِ دَارِي،
أَوْ عَنْ بَقَايَا الزَّيْتِ فِي جِرَارِي
هَذَا دُخَانٌ... مَا أَرَاهُ أَمَامِي
يُخْفِي لَهِيبًا أَجَّجُوهُ بِنَارِي
يَا سَادَتِي، مَا عَادَ سِرًّا يُكْتَمُ
هَذَا الَّذِي يَجْرِي، وَهَذَا الأَعْظَمُ
هُمْ لَا يُرِيدُونَ التُّرَابَ، وَرَبِّكُمْ،
فَالتُّرْبُ أَرْخَصُ مَا بِهِ نَتَوَهَّمُ!
هُمْ يَعْرِفُونَ... وَنَحْنُ قَدْ نَسِينَا
أَنَّ القُصُورَ تُشَادُ مِنْ طِينِنَا
لَكِنَّ شَيْئًا فِي الصُّدُورِ مُقَدَّسًا
كَانَ السَّمَاءَ... وَكَانَ يَحْمِينَا
يُرِيدُونَ قَلْبَ العَاشِقِ المَجْرُوحِ
أَنْ يَنْبِضَ الخُذْلَانُ فِيهِ وَيُوحِي
بِأَنَّ حَرْفَ النُّورِ كَانَ خُرافَةً
وَبِأَنَّ صَوْتَ الحَقِّ.. بَحَّةُ رُوحِ
لَا، لَيْسَتِ الأَرْضُ الَّتِي يَبْغُونَهَا
بَلْ أَحْرُفُ القُرْآنِ... يَسْتَلِبُونَهَا!
مِنْ أَلْسُنِ الأَطْفَالِ، مِنْ وَعْيِ المَدَى
مِنْ كُلِّ نَبْضٍ صَادِقٍ يَرْجُونَهَا
مَاذَا سَيَنْفَعُ إِنْ حَرَّرْنَا الدِّيَارْ
وَالرُّوحُ تَائِهَةٌ بِصَحْرَاءِ البَوَارْ؟
أَلَمْ يَكُنْ "اقْرَأْ" هُوَ المِفْتَاحُ، قُلْ لِي؟
لِبَابِ عِزٍّ... أَوْصَدُوهُ بِعَارْ
سَيَظَلُّ هَذَا الجُرْحُ فِينَا نَازِفَا
حَتَّى نَعُودَ كَمَا ابْتَدَأْنَا... عَارِفَا
بِأَنَّ نُورَ اللهِ فِي كَلِمَاتِهِ
هُوَ سِرُّنَا... وَبِهِ نَكُونُ خَلائِفَا*
فَلْتَسْقُطِ الأَوْهَامُ... مَا هِيَ حَرْبُ طِينْ
بَلْ طَعْنَةٌ فِي الرُّوحِ، فِي عُمْقِ اليَقِينْ
وَلَنْ يَفُلَّ الحَدَّ إِلَّا صَوْلَةٌ
بِاسْمِ الكِتَابِ... تُعِيدُ مَجْدَ الأَوَّلِينْ.
»»»»»بقلمي /
نصر الدين يوسف
♕♕♕♕♕♕♕♕♕
رقصة الأقدار المجنونة
»»»»»»»»»»»»
رواية بقلمي/ نصر الدين يوسف
»»»»»»»»»»»
**المقدمة /**
**_____**
> أحياناً، تَرْسُمُ الأقدارُ خُطُوطَها بِبَرَاعَةِ فَنَّانٍ سَاخِر، فَتَجْمَعُ نَقِيضَيْنِ عَلَى مَسْرَحِ الحَيَاة، لا لِيَتَعَانَقَا، بَلْ لِيَبْدَآ رَقْصَةً غَامِضَةً لا يُعْرَفُ مُنْتَهَاهَا. خُطُوَاتُهَا تُمْلِيهَا الحَاجَة، وَإِيقَاعُهَا يَضْبِطُهُ الخِدَاع، وَأَنْغَامُهَا هَمَسَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ تَعِدُ بِالخَلاصِ بَيْنَمَا تُبْطِنُ الهَاوِيَة.
>
> فِي عُرُوقِ هَذِهِ المَدِينَةِ النَّابِضَةِ بِالضَّجِيجِ وَالأَسْرَار، وَفِي لَيْلَةٍ يُفْتَرَضُ أَنْ تَحْتَفِلَ فِيهَا الدُّنْيَا بِبِدَايَةٍ جَدِيدَة، يَسِيرُ رَجُلٌ مَوْهُوبٌ كَادَ اليَأْسُ أَنْ يَبْتَلِعَهُ، يَحْمِلُ فِي جَعْبَتِهِ أَحْلامَاً مُجْهَضَةً وَمَهَارَةً لَمْ تَجِدْ طَرِيقَهَا الصَّحِيح. هُوَ قِطْعَةٌ عَلَى رُقْعَةِ شِطْرَنْجِ الحَيَاة، ظَنَّ لِوَهْلَةٍ أَنَّهُ سَيُحَرِّكُ مَصِيرَهُ بِيَدِهِ، لِيَجِدَ نَفْسَهُ جُزْءَاً مِنْ لُعْبَةٍ أَكْبَر، خُيُوطُهَا تُمْسِكُ بِهَا أَصَابِعٌ مَاكِرَةٌ تَخْتَبِئُ خَلْفَ ابْتِسَامَةٍ بَرَّاقَةٍ وَقِنَاعٍ مِنَ الثَّرَاء.
>
> مَا الَّذِي يَحْدُثُ حِينَ تَلْتَقِي البَرَاعَةُ المُعَطَّلَةُ بِالدَّهَاءِ المُتَّقِدِ فِي عَشِيَّةِ عَامٍ يَلْفِظُ أَنْفَاسَهُ الأَخِيرَة؟ حِينَ تُلْقِي المُصَادَفَةُ الظَّاهِرِيَّةُ بِحَجَرٍ فِي مِيَاهِ القَدَرِ الرَّاكِدَة، فَتُحْدِثُ دَوَائِرَ مُتَّسِعَةً مِنَ الأَسْرَار، وَالأَمْوَالِ المَرِيبَة، وَالتَّحَالُفَاتِ غَيْرِ المُتَوَقَّعَة؟
>
> هَذِهِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ حِكَايَةٍ عَنْ فُرْصَةٍ ضَائِعَةٍ أَوْ صَفْقَةٍ مُلْتَوِيَة. إِنَّهَا رِحْلَةٌ إِلَى قَلْبِ المَتَاهَةِ حَيْثُ الحَقِيقَةُ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الوَهْم، وَحَيْثُ كُلُّ خُطْوَةٍ مَحْسُوبَةٍ قَدْ تَكُونُ هِيَ الفَخَّ القَادِم. إِنَّهَا دَعْوَةٌ لِمُشَاهَدَةِ رَقْصَةٍ مَجْنُونَةٍ بَيْنَ الذِّئَابِ وَالحُمْلان، حَيْثُ الأَدْوَارُ تَتَبَدَّل، وَالأَقْنِعَةُ تَتَسَاقَط، وَلا أَحَدٌ يَعْلَمُ مَنْ سَيَقُودُ الرَّقْصَة... وَمَنْ سَيَسْقُطُ فِي النِّهَايَة.
>
> فَهَلْ أَنْتَ مُسْتَعِدٌّ لِدُخُولِ هَذِهِ الدَّوَّامَةِ حَيْثُ لا شَيْءَ كَمَا يَبْدُو، وَحَيْثُ كُلُّ مُنْعَطَفٍ قَدْ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةٍ أَكْثَرَ إِثَارَةً... أَوْ أَكْثَرَ خُطُورَة؟
**»»»»»»»»»»»»**
**الرقصة الأولى /**
**_____رَجُلٌ عَلَى حَافَةِ الهَاوِيَةِ فِي لَيْلَةِ رَأْسِ السَّنَة_____**
**(السَّاعَةُ الرَّابِعَةُ عَصْرَاً – عَشِيَّةُ رَأْسِ السَّنَة)**
كَانَتْ شمسُ ديسمبر الشاحبة تَلْسَعُ وَجْهَ مُصْطَفَى أَبُو خَلِيل وَهُوَ يَنْسَلُّ مِنْ بَوَّابَةِ الفِيلَّا الفَخْمَة، لا تَحْمِلُ مَعَهَا نَسَمَاتِ احْتِفَالٍ بِقُدُومِ عَامٍ جَدِيد، بَلْ صَفْعَةً أُخْرَى مِنْ صَفَعَاتِ الخِذْلانِ المُعْتَادَة. فِي عُرُوقِهِ كَانَتْ تَجْرِي حِكَايَاتٌ لَمْ تَكْتَمِلْ، وَأَحْلَامٌ تَعَثَّرَتْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ مَرَافِئَهَا. رَجُلٌ خَطَّ الشَّيْبُ فَوْدَيْهِ وَقَارَبَ الخَمْسِين، لَكِنَّ رُوحَهُ كَانَتْ تَحْمِلُ بَصْمَةَ فَتَىً لَمْ يَشْبَعْ مِنَ اللَّعِب، وَعَقْلاً حَادَّاً كَشَفْرَةٍ لَمْ تَجِدْ مَا تَقْطَعُهُ سِوَى خُيُوطِ حَظِّهِ الوَاهِيَة.
قُبَيْلَ دَقَائِق، كَانَ يَجْلِسُ فِي صَالُونِ صَدِيقِهِ الثَّرِيِّ "عِصَام البِنْهَاوِي"، يَسْتَمِعُ إِلَى مُحَاضَرَةٍ مَجَّانِيَّةٍ عَنِ الفَشَلِ وَالفُرَصِ الضَّائِعَة، مَمْزُوجَةً بِنَصَائِحَ أَبَوِيَّةٍ زَائِفَةٍ عَنْ أَهَمِّيَّةِ الاسْتِقْرَارِ وَتَكْوِينِ أُسْرَة.
_ "يا مصطفى يا أخويا، العمر بيجري، وإنتَ لِسَّه زيِّ مَا إنْتَ. لا قِرْشِينْ يِنْفَعُوكْ وَلا ضَنَا يِشِيلْ اسْمَكْ. أنا مش عارف أساعدك المَرَّة دي، الشركة واقعة في أزمة، والدنيا قافلة خالص."_
هَكَذَا تَفَوَّهَ عِصَام، وَهُوَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى لَوْحَةٍ زَيْتِيَّةٍ بَاهِظَةِ الثَّمَنِ تُزَيِّنُ الحَائِطَ، كَأَنَّ الأَزْمَةَ المَالِيَّةَ قَدْ طَرَقَتْ بَابَهُ لِلتَّوّ. لَمْ يَخْدَعْ هَذَا الادِّعَاءُ سِوَى سَذَاجَةِ مُصْطَفَى لِلَحَظَات، أَوْ رُبَّمَا رَغْبَتِهِ اليَائِسَةِ فِي تَصْدِيقِ أَيِّ بَصِيصِ أَمَل.
لَكِنَّ الكَلِمَاتِ الَّتِي اخْتَرَقَتْ قَلْبَهُ كَالسَّهْمِ المَسْمُومِ كَانَتْ عِنْدَمَا قَالَ عِصَام بِنَبْرَةِ الوَاعِظ:
_ "كان زمانك دلوقتي معاك ابن ولا اتنين يسندوك في آخرتك. الواحد من غير ولاد كأنه شجرة مقطوعة يا مصطفى."_
"ابْنٌ..." رَدَّدَ مُصْطَفَى الكَلِمَةَ فِي سِرِّهِ وَهُوَ يَسِيرُ بِخُطُوَاتٍ مُثْقَلَةٍ نَحْوَ مَحَطَّةِ المِتْرُو. لَوْ أَرَادَ اللهُ لَهُ ابْنَاً، لَكَانَ قَدْ رَزَقَهُ. لَطَالَمَا آمَنَ بِأَنَّ الأَقْدَارَ لَهَا حِسَابَاتُهَا الخَاصَّة، وَإِنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ فِي الأُبُوَّة، فَسَيَكُونُ ابْنُهُ هَذَا "مُقَدَّرَاً" لَهُ، كَائِناً مَنْ كَان، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ القَدَر. لَكِنَّ كَلِمَاتِ عِصَام، فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ بِالذَّات، لَيْلَةِ رَأْسِ السَّنَةِ الَّتِي تَضِجُّ فِيهَا البُيُوتُ بِضَحِكَاتِ الأَطْفَالِ وَصَخَبِ العَائِلَات، بَدَتْ كَالمِلْحِ الَّذِي يُرَشُّ عَلَى جُرْحٍ مَفْتُوح.
فِي ذَلِكَ اليَوْم، كَانَتْ جُيُوبُ مُصْطَفَى تَئِنُّ خَوَاءً، وَكَرَامَتُهُ تَنْزِفُ صَمْتَاً. عَادَ يَجُرُّ أَذْيَالَ الخَيْبَةِ إِلَى صَخَبِ المِتْرُو، ذَلِكَ العَالَمِ السُّفْلِيِّ المُتَكَدِّسِ بِالأَنْفَاسِ وَالهُمُومِ وَالأَضْوَاءِ البَاهِتَةِ الَّتِي لا تَعْكِسُ أَيَّ بَهْجَةٍ احْتِفَالِيَّة. وَقَفَ مُصْطَفَى، جَزِيرَةَ كَآبَةٍ وَسَطَ مُحِيطٍ مِنَ البَشَر، البَعْضُ يَحْمِلُ هَدَايَا مُتَوَاضِعَة، وَالبَعْضُ الآخَرُ يَضْحَكُ بِصَوْتٍ عَالٍ، وَالجَمِيعُ يَبْدُو كَأَنَّهُ يَسْتَعِدُّ لِشَيْءٍ مَا، إِلَّا هُوَ. عَيْنَاهُ مُعَلَّقَتَانِ بِشَاشَةِ هَاتِفِهِ المَحْمُول، رَفِيقِهِ الأَخِيرِ فِي وَحْدَتِهِ. هَمَسَ لَهُ كَمَنْ يُوَدِّعُ حَبِيبَاً رَاحِلاً:
_ "خلاص يا صاحبي... شَكْلَكْ كِدَه هَتِحْتِفِلْ بِلِيلَةِ رَأْسِ السَّنَة فِي إِيدْ وَاحِدْ تَانِي غِيرِي. لَازِمْ أَبِيعَكْ عَشَانْ نِعَدِّي اللِّيلَة دِي."_
وَبَيْنَمَا هُوَ غَارِقٌ فِي يَأْسِهِ، اصْطَادَتْ عَيْنَاهُ طَيْفَاً مِنَ التَّرَفِ يَتَجَوَّلُ بِجِوَارِهِ. شَابٌّ وَسِيمٌ، فِي أَوَاخِرِ العِشْرِينَات، تَفُوحُ مِنْهُ رَائِحَةُ عِطْرٍ بَاهِظٍ يَخْتَلِطُ بِرَائِحَةِ الجِلْدِ الفَاخِرِ لِسُتْرَتِهِ الَّتِي تَصْرُخُ بِالفَخَامَة. وَعِنْدَمَا اقْتَرَبَ الشَّابُّ، لَمَحَ مُصْطَفَى، بِعَيْنِ الخَبِيرِ الَّذِي صَقَلَتْهُ الحَاجَة، طَرَفَ مِحْفَظَةٍ مُنْتَفِخَةٍ تَكْشِفُ عَنْ أَوْرَاقٍ خَضْرَاءَ تَعِدُ بِالكَثِير. وَقَفَ الشَّابُّ أَمَامَهُ مُبَاشَرَةً، يَنْظُرُ هُوَ الآخَرُ فِي هَاتِفِهِ الفَاخِر.
وهنا التفت إليه الشاب بابتسامة ودودة.
_ "شكلك شايل هموم الدنيا كلها يا أستاذ. كل سنة وانت طيب الأول."_
ارتبك مصطفى، لكنه رد بمجاملة باهتة:
_ "وانت طيب... أبدًا، شوية تفكير بس."_
نظر الشاب حوله إلى الزحام والوجوه المستعجلة وقال بمرح:
_ "كل الناس دي بتجري عشان تحتفل... سيادتك بقى هتحتفل بليلة رأس السنة إزاي؟"_
نظر إليه مصطفى نظرة طويلة، خالية من أي مزاح، وقال بجدية تامة وصوت كأنه قادم من بئر سحيق:
_ "أنا هحتفل بيه زي كل سنة... مع الأشباح!"_
ابتسم الشاب، الذي عرف نفسه لاحقًا باسم "عز"، وظنها دعابة سوداء تليق بعبوس هذا الرجل.
_ "تقصد أشباح الماضي والذكريات. كلنا عندنا منها كتير."_
هز مصطفى رأسه نافيًا، وعيناه مثبتتان على نقطة بعيدة في ظلام النفق، كأنه يراهم الآن.
_ "لأ. مع أشباح بحق وحقيقي. ناس ماتت... وبحتفل مع أشباحهم."_
انفجر عز في ضحكة صافية ورنانة، ضحكة بدت في غير محلها على الإطلاق. رمق مصطفى بنظرة تمزج بين التسلية والشفقة، نظرة من لا يأخذ كلامه على محمل الجد إطلاقًا. هذه الضحكة، وهذا الاستخفاف، كانا هما القشة التي قصمت ظهر كبرياء مصطفى الجريح، واستيقظت في أصابعه موهبة قديمة كان قد نسيها.
فِي لَحْظَةٍ خَاطِفَة، وَبِحَرَكَةٍ تَكَادُ العَيْنُ لا تَلْتَقِطُهَا، انْزَلَقَتِ المِحْفَظَةُ مِنْ جَيْبِ السُّتْرَةِ الجِلْدِيَّةِ إِلَى يَدِ مُصْطَفَى المُرْتَجِفَة. لَمْ تَكَدْ تَمُرُّ ثَوَانٍ حَتَّى انْدَفَعَ شَخْصٌ آخَر، صَدَمَ الشَّابَّ الثَّرِيَّ بِقُوَّة، ثُمَّ قَفَزَ خَارِجَاً مِنْ أَبْوَابِ المِتْرُو الَّتِي فُتِحَتْ لِلتَّوّ، كَأَنَّهُ شَبَحٌ تَبَخَّرَ فِي الهَوَاء.
صَرَخَ الشَّابُّ بِذُهُول:
_ "مِحْفَظْتِي! مِحْفَظْتِي اتْسَرَقِتْ!"_
عَلَى الفَوْر، تَحَوَّلَتِ الأَنْظَارُ وَالاِتِّهَامَاتُ نَحْوَ الرَّاكِبِ الهَارِب. وَهُنَا، لَعِبَ مُصْطَفَى دَوْرَهُ بِبَرَاعَةِ المُمَثِّلِ القَدِير، دَفَعَ الشَّابَّ المَصْدُومَ لِلِحَاقِ بِالسَّارِقِ المَزْعُوم، وَجَرَى بِجَانِبِهِ يَهْتِفُ مُشَجِّعَاً:
_ "الْحَقُه يَا أَخُويَا! مَا تْسِيبُوشْ يِفْلِتْ! أَنَا مَعَاكْ!"_
انْطَلَقَتْ مُطَارَدَةٌ لاَهِثَةٌ خَارِجَ مَحَطَّةِ المِتْرُو، لَكِنَّ السَّارِقَ المَزْعُومَ كَانَ أَسْرَع، وَتَبَدَّدَ أَثَرُهُ فِي زِحَامِ الشَّارِعِ. وَفِي خِضَمِّ الجَرْي، تَعَثَّرَ مُصْطَفَى عَمْدَاً وَسَقَطَ أَرْضَاً، مُتَأَوِّهَاً بِأَلَمٍ مُصْطَنَع. تَوَقَّفَ الشَّابُّ الثَّرِيُّ فَوْرَاً، وَنَسِيَ مِحْفَظَتَهُ لِلَحَظَات، وَانْحَنَى لِمُسَاعَدَتِهِ بِقَلَقٍ حَقِيقِيّ:
_ "إِنْتَ كُوَيِّسْ يَا عَمُّو؟ حَصَلَّكْ حَاجَة؟"_
قَالَ مُصْطَفَى بِصَوْتٍ لاَهِث:
_ "سِيبَكْ مِنِّي يَا ابْنِي وِالْحَقْ بِفِلُوسَكْ! الحَرَامِي هَرَبْ خَلَاصْ!"_
لَكِنَّ عزّ هَزَّ رَأْسَهُ بأسف:
_ "وَلا يْهِمَّكْ... سَلَامْتَكْ أَهَمّ. حَاوِلْ كِدَه تْحَرَّكْ رِجْلَكْ بِالرَّاحَة."_
تَظَاهَرَ مُصْطَفَى بِالتَّحَسُّنِ التَّدْرِيجِيّ:
_ "أَنَا الحَمْدُ لِلَّه بَقِيتْ كُوَيِّسْ، بَسْ يَا خْسَارَة، الحَرَامِي طَارْ. شَكْلْ المِحْفَظَة مَكَنْتِشْ فِيهَا حَاجَة مُهِمَّة أَوْي يَعْنِي..."_
تنهد عز بحسرة:
_ "بِالعَكْسِ تَمَامَاً... كَانْ فِيهَا أَلْف وُخُمُسْمِيِّتْ دُولَار."_
اخْتَلَطَتِ الدَّهْشَةُ بالشفقة على وجه مصطفى، بينما كان قلبه يرقص فرحًا خفيًا:
_ "دُولَار؟! أَلْف وُخُمُسْمِيِّتْ دُولَار بِحَالْهُمْ؟! وِتْقُولِّي وَلا يْهِمَّكْ؟!"_
_ "فِدَاكْ يَا... اسْمَكْ الكَرِيمْ إِيه؟"_
_ "مُصْطَفَى... مُصْطَفَى أَبُو خَلِيل."_
_ "أَهْلاً وَسَهْلاً يَا أُسْتَاذْ مُصْطَفَى، أَنَا عِزّ."_ مَدَّ الشَّابُّ يَدَهُ مُصَافِحَاً.
_ "أَهْلاً بِيكْ... لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يعوض عليك يا ابني."_
_ "المُشْكِلَة بَقَى دِلْوَقْتِي أَنَا هَارُوحْ إِزَّايْ؟ كُلّ فِلُوسِي كَانِتْ فِي المِحْفَظَة، وِحَتَّى الكِرِيدِيتْ كَارْدزْ."_ قَالَ عِزّ وَهُوَ يُمَرِّرُ يَدَهُ فِي شَعْرِهِ بِتَوَتُّرٍ حقيقي.
وَهُنَا، عَادَتْ لِمُصْطَفَى رَبَاطَةُ جَأْشِهِ، وَابْتَسَمَ ابْتِسَامَةَ الأَبِ الحَانِي:
_ "وَلا يْهِمَّكْ يَا ابْنِي، مَا تِقْلَقْشِ مِنْ مَوْضُوعِ الرُّجُوعْ دَه، أَنَا مَعَايَا مَا يْكَفِّيكْ وِزْيَادَة."_
وَضَعَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ الدَّاخِلِيِّ لِيُخْرِجَ مِحْفَظَتَهُ... وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْهَا! تَجَمَّدَتِ الدِّمَاءُ فِي عُرُوقِهِ، وَبَحَثَ فِي جُيُوبِهِ الأُخْرَى بِذُعْرٍ حَقِيقِيٍّ هَذِهِ المَرَّة، وَصَرَخَ:
_ "لأ! مِشْ مُمْكِنْ! أَنَا كَمَانْ اتْسَرَقْتْ! مِحْفَظْتِي!"_
اتسعت عينا عز بصدمة، ثم تحولت إلى شفقة عميقة على هذا الرجل الطيب.
_ "لا حول ولا قوة إلا بالله! معقولة؟ الحرامي ده نشلنا إحنا الاتنين؟ هي كان فيها كتير يا أستاذ مصطفى؟"_
قَالَ مُصْطَفَى بِأَسَىً صَادِقٍ هَذِهِ المَرَّة، وَهُوَ يَشْعُرُ بِأَنَّ الأَرْضَ تَمِيدُ بِهِ:
_ "آه... كَانْ فِيهَا كُلّ اللِّي حِيلْتِي! المِيِّتْ جِنِيهْ اللِّي كَانِتْ مَعَايَا!"_ ثُمَّ صَمَتَ، وَأَضَافَ بِحَيْرَةٍ وَقَلَقٍ: _"طَبْ وِإِحْنَا هَنْرُوحْ إِزَّايْ دِلْوَقْتِي؟ دِي لِيلَة رَأْسِ السَّنَة، وِالدُّنْيَا هَتِبْقَى زَحْمَة وِمَفِيشْ مُوَاصَلَاتْ بَعْد شْوَيَّة."_
بَعْدَ لَحْظَةِ تَفْكِير، لَمَعَتْ عَيْنَا عِزّ بِفِكْرَة، وَكَأَنَّهُ مُمَثِّلٌ وَجَدَ المُخْرِجُ مَأْزَقَاً دَرَامِيَّاً مُثِيرَاً:
_ "لَقِيتْهَا!"_
انْتَبَهَ مُصْطَفَى، مُتَوَجِّسَاً مِنْ طَبِيعَةِ أَفْكَارِ هَذَا الشَّابّ.
قَالَ عِزّ بِحَمَاسٍ مُبَالَغٍ فِيهِ:
_ "إِيهْ رَأْيَكْ نِوَقَّفْ أَيّ حَدّ فِي الشَّارِعْ وِنُطْلُبْ مِنْهُ تَمَنْ المُوَاصَلَاتْ؟ نِشْحَتْ يَعْنِي! فِكْرَة جَامْدَة مِشْ كِدَه؟"_
انْتَفَضَ مُصْطَفَى بِغَضَبٍ مَكْبُوت:
_ "إِيهْ؟! أَشْحَتْ؟! لَا طَبْعَاً! أَفَضَّلْ أَرْجَعْ مَاشِي عَلَى رِجْلَيَّا وَلَا أَمِدّ إِيدِي لْحَدّ!"_
أَمْسَكَهُ عِزّ مِنْ ذِرَاعِهِ، وَعَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ بِمَرَحٍ مُسْتَفِزّ:
_ "اسْتَنَّى بَسْ يَا رَاجِلْ يَا طَيِّبْ! دِي تَجْرِبَة اجْتِمَاعِيَّة مُثِيرَة! طُولْ عُمْرِي بَقَابِلْ نَاسْ تِطْلُبْ مِنِّي فِلُوسْ عَشَانْ يِرُوحُوا، وِكُنْتُ دَايْمَاً أَشُكّ إِنْهُمْ بِيْمَثِّلُوا. أَهِي جَتْ الفُرْصَة نْشُوفْ النَّاسْ هَتِبُصِّلْنَا إِزَّايْ إِحْنَا بَقَى، هَيْصَدَّقُونَا وَلَا هَيْعْتِبِرُونَا نَصَّابِينْ؟ بِالذَّاتْ فِي لِيلَة زَيّ دِي، يِمْكِنْ قُلُوبْهُمْ تِحِنّ."_
ابْتَسَمَ مُصْطَفَى بِسُخْرِيَةٍ مُرَّة:
_ "لَا يَا عَمّ عِزّ، أَنَا مِشْ فَايِقْ لِتَجَارِبْ سِيَادْتَكْ دِلْوَقْتِي خَالِصْ. رُوحْ جَرَّبْ لِوَحْدَكْ."_
_ "أَرْجُوكْ يَا أُسْتَاذْ مُصْطَفَى! دِي هَتِبْقَى حَاجَة مِسَلِّيَة جِدَّاً! مِنْهَا نِتْسَلَّى لْحَدّ مَا نْشُوفْ هَنِعْمِلْ إِيهْ."_
_ "آسِفْ، مِشْ جَايْ مَعَايَا سِكَّة."_
وَبِالفِعْل، أَصَرَّ عِزّ عَلَى خَوْضِ التَّجْرِبَة. بَدَأَ يَتَفَحَّصُ المَارَّةَ بِعَيْنِ الخَبِيرِ المَسْرَحِيِّ الَّذِي يَخْتَارُ جُمْهُورَهُ. فَجْأَةً، اقْتَرَبَتْ فَتَاةٌ تَتَأَلَّقُ جَمَالاً وَأُنُوثَة، تَرْتَدِي فُسْتَانَاً أَحْمَرَ لاَمِعَاً يَبْدُو أَنَّهَا فِي طَرِيقِهَا لِاحْتِفَالٍ مَا. أَوْقَفَهَا عِزّ بِابْتِسَامَةٍ سَاحِرَةٍ وَثِقَةٍ بِالنَّفْسِ لا تَهْتَزّ:
_ "لَوْ سَمَحْتِي يَا آنِسَة... كُلّ سَنَة وِانْتِي طَيِّبَة الأَوَّلْ."_
تَوَقَّفَتِ الفَتَاةُ بِبَعْضِ التَّوَجُّس، لَكِنَّ ابْتِسَامَةَ عِزّ كَانَتْ كَفِيلَةً بِتَخْفِيفِهِ:
_ "أَهْلاً... وِانْتَ طَيِّبْ. خِيرْ؟"_
قَالَ عِزّ بِجِدِّيَّةٍ مُصْطَنَعَة، مُشِيرَاً إِلَى مُصْطَفَى الجَالِسِ عَلَى الرَّصِيفِ مُتَظَاهِرَاً بِالإِعْيَاءِ وَالتَّعَب:
_ "أَنَا وِالأُسْتَاذْ مُصْطَفَى الطَّيِّبْ دَه، لِسَّه مَسْرُوقِينْ فِي المِتْرُو حَالَاً، وِمَعْنَاشْ وَلَا مَلِيمْ نِرُوحْ بِيهْ. مُمْكِنْ تْسَاعِدِينَا بِأَيّ حَاجَة، وِأَوَّلْ مَا أَوْصَلْ البِيتْ هَبْعَتْلِكْ الفِلُوسْ فَوْرَاً عَلَى مِحْفَظْتِكْ الإِلِكْتِرُونِيَّة؟"_
نَظَرَتِ الفَتَاةُ إِلَيْهِ وَإِلَى مُصْطَفَى، ثُمَّ عَادَتْ بِنَظَرِهَا إِلَى عِزّ وَقَالَتْ بِذَكَاءٍ وَدَلال:
_ "آه، يَعْنِي إِنْتَ عَايِزْ فِلُوسْ... وِرَقَمْ تِلِيفُونِي كَمَانْ عَشَانْ تِبْعَتْلِي عَلِيهْ؟ مِتْأَكِّدْ إِنَّكْ عَايِزْ الفِلُوسْ بَسْ؟"_
اتَّسَعَتِ ابْتِسَامَةُ عِزّ:
_ "ههههه، بِصَرَاحَة، رَقَمْ تِلِيفُونِكْ هَيْبْقَى إِضَافَة رَائِعَة لِيلَة رَأْسِ السَّنَة دِي!"_
أَطْلَقَتِ الفَتَاةُ ضِحْكَةً خَفِيفَةً وَرَنَّانَة، بَدَتْ كَأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ مُوسِيقَى الشَّارِعِ الصَّاخِبَة، ثُمَّ مَضَتْ فِي طَرِيقِهَا قَائِلَةً بِمَرَح:
_ "رَبَّنَا يْسَهِّلَكْ يَا شَاطِرْ! حَاوِلْ مَعَ حَدّ تَانِي."_
صَاحَ عِزّ خَلْفَهَا بِمُزَاح:
_ "لِلَّه! لِلَّه يَا مُحْسِنِينْ الغَرَامْ!"_
بَعْدَ قَلِيل، مَرَّ رَجُلٌ أَرْبَعِينِيُّ المَلامِح، يَبْدُو عَلَيْهِ الوَقَار. أَوْقَفَهُ عِزّ بِنَفْسِ الطَّلَب. نَظَرَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ بِاشْمِئْزَازٍ مِنْ أَعْلَى رَأْسِهِ حَتَّى أَخْمَصِ قَدَمَيْه:
_ "أَخُصّ عَلِيكْ! دَه إِنْتَ شَكْلَكْ ابْن نَاسْ وِمْتَرَيِّشْ! عَايِزْ فِلُوسْ لِيهْ؟ عَشَانْ تِرُوحْ تِشْتِرِي مُخَدَّرَاتْ تِحْتِفِلْ بِيهَا؟ اتَّقُوا الله وِبَطَّلُوا القَرَفْ اللِّي بِتِعْمِلُوه دَه!"_
وَرَجُلٌ آخَرُ قَابَلَهُمَا بِالصُّرَاخِ وَالتَّهْدِيدِ بِاسْتِدْعَاءِ الشُّرْطَة:
_ "نَعَمْ يَا أَخُويَا! مِشْ مَعَاكُمْ فِلُوسْ تِرُوحُوا؟ غُورُوا اشْتَغَلُوا بَدَلْ الشَّحَاتَة دِي! وَسَّخْتُوا البَلَدْ!"_
عَادَ عِزّ وَجَلَسَ بِجَانِبِ مُصْطَفَى مَهْزُومَاً ظَاهِرِيَّاً، وَلَكِنَّهُ مُسْتَمْتِعٌ بِشَكْلٍ وَاضِح. قَالَ مُصْطَفَى بِبَعْضِ الأَمَل، وَهُوَ يُحَاوِلُ أَنْ يَجِدَ مَخْرَجَاً:
_ "إِنْتَ مِشْ قُلْتِ إِنْ عِنْدَكْ مِحْفَظَة إِلِكْتِرُونِيَّة؟ مَفِيشْ فِيهَا أَيّ رَصِيدْ؟"_
ابْتَسَمَ عِزّ بِسُخْرِيَةٍ خَفِيفَة:
_ "أَكِيدْ فِيه طَبْعَاً، بَسْ المُشْكِلَة إِنِّي كُنْتُ سَهْرَانْ مَعَ أَصْحَابِي إِمْبَارِحْ، وِمُوبَايْلِي فَصَلْ شَحْنْ خَالِصْ، وِنِسِيتْ البَاوَرْ بَانْكْ."_
_ "طَيِّبْ بَسِيطَة! اسْتَخْدِمْ مُوبَايْلِي، وِأَهو فِيه مَرْكَزْ اتِّصَالاتْ قُدَّامْنَا أَهَه، مُمْكِنْ تِشْحِنْ مِنْهُ أَوْ تِكَلِّمْ حَدّ يِجِيلَكْ."_ قَالَ مُصْطَفَى وَهُوَ يُخْرِجُ هَاتِفَهُ المُتَوَاضِع.
_ "فِكْرَة مُمْتَازَة يَا أُسْتَاذْ مُصْطَفَى! إِنْتَ دِمَاغْ بِصَرَاحَة! يَلَّا بِينَا."_
_ "رُوحْ إِنْتَ يَا عِزّ، أَنَا رِجْلِي لِسَّه وَاجْعَانِي وِمِشْ قَادِرْ أَمْشِي، هَسْتَنَّاكْ هِنَا."_
أَخْرَجَ عِزّ هَاتِفَهُ الفَاخِرَ المَطْفَأ، ثُمَّ بِحَرَكَةٍ سَرِيعَةٍ أَخْرَجَ شَرِيحَتَهُ وَوَضَعَهَا فِي هَاتِفِ مُصْطَفَى المُتَوَاضِعِ الَّذِي نَاوَلَهُ إِيَّاه. ثُمَّ، وَبِحَرَكَةٍ مُفَاجِئَة، أَعْطَى مُصْطَفَى هَاتِفَهُ الفَاخِرَ قَائِلاً:
_ "طَيِّبْ، خَلِّي مُوبَايْلِي دَه مَعَاكْ كَضَمَانْ لْحَدّ مَا أَرْجَعْ. عَشَانْ تِطَّمِّنْ."_
تَرَدَّدَ مُصْطَفَى، وَشَعَرَ بِشَيْءٍ مِنْ عَدَمِ الاِرْتِيَاح:
_ "لَا يَا عِزّ، مَلُوشْ لُزُومْ، خُدُه مَعَاكْ."_
أَصَرَّ عِزّ بِابْتِسَامَةٍ وَاسِعَة:
_ "لأ أَبَدَاً. خَلِّيه مَعَاكْ أَمَانَة. دَقَايِقْ وِرَاجِعْلَكْ بِالفَرَجْ."_
وَبِالفِعْل، تَرَكَ عِزّ هَاتِفَهُ الفَاخِرَ مَعَ مُصْطَفَى وَدَخَلَ مَرْكَزَ الاِتِّصَالات. مَرَّ الوَقْتُ، دَقِيقَةٌ تِلْوَ الأُخْرَى، وَمُصْطَفَى يَنْتَظِرُ بِالخَارِج، السَّاعَةُ تَقْتَرِبُ مِنَ السادسة مَسَاءً، وَالبَرْدُ يَشْتَدّ. بَدَأَ يُؤَنِّبُهُ ضَمِيرُهُ عَلَى فِعْلَتِهِ، وَيُصَارِعُ خَلِيطَاً مِنَ النَّدَمِ وَالقَلَقِ وَالتَّرَقُّب، لَكِنَّ الدَّقَائِقَ تَحَوَّلَتْ إِلَى نِصْفِ سَاعَة، ثُمَّ قَارَبَتِ السَّاعَةَ الكَامِلَة، وَعِزّ لَمْ يَخْرُجْ.
بَدَأَ الشَّكُّ يَتَسَلَّلُ إِلَى قَلْبِ مُصْطَفَى كَالأَفْعَى. أَخْرَجَ مِحْفَظَةَ عِزّ الَّتِي سَرَقَهَا، يَدَاهُ تَرْتَجِفَان. فَتَحَهَا... وَكَانَتِ المُفَاجَأَةُ الأُولَى! المِحْفَظَةُ فَارِغَةٌ تَمَامَاً مِنْ أَيِّ نُقُود! لا دُولَارَاتٍ وَلا غَيْرَهَا، فَقَطْ بِضْعَةُ أَوْرَاقٍ خَضْرَاءَ مَقْصُوصَةٍ بِعِنَايَةٍ عَلَى حَجْمِ الدُّولار، أَشْبَهُ بِأَوْرَاقِ اللَّعِب!
صَرَخَ مُصْطَفَى فِي نَفْسِهِ: "مُوبَايْلِي!" وَانْدَفَعَ إِلَى دَاخِلِ مَرْكَزِ الاِتِّصَالاتِ كَالمَجْنُون، مُتَنَاسِيَاً أَلَمَ قَدَمِهِ المُصْطَنَع. بِالطَّبْع، لَمْ يَكُنْ عِزّ هُنَاك. سَأَلَ العَامِلَ خَلْفَ المِنْضَدَةِ الزُّجَاجِيَّةِ عَنِ الشَّابِّ الَّذِي دَخَلَ قَبْلَ سَاعَة. نَظَرَ إِلَيْهِ العَامِلُ بِابْتِسَامَةٍ عَارِفَة، وَكَأَنَّهُ يَنْتَظِرُ هَذَا السُّؤَال:
_ "حَضْرِتَكْ الأُسْتَاذْ مُصْطَفَى، صَحّ؟"_
_ "أَيْوَه! إِنْتَ تِعْرِفْنِي مِنْينْ؟"_
_ "لَا شَخْصِيَّاً طَبْعَاً، بَسْ عِزّ بَاشَا سَابْ لِحَضْرِتَكْ الظَّرْف دَه."_
تناول مصطفى الظرف بيد مرتعشة. فتحه، ووجد بداخله محفظته، وبداخلها المائة جنيه البائسة، ومائتي جنيه أخرى إضافية! ووجد أيضًا ورقة صغيرة مطوية، كُتب عليها بخط أنيق:
_"لا تحاول بيع الموبايل الفاخر الذي تركته معك، لأنه معطل تمامًا ولن يُصلح. وشكرًا جزيلًا على موبايلك الجيد... سيفيدني جدًا هذه الليلة! وكل سنة وأنت طيب يا أستاذ مصطفى، أتمنى ألا تقضي ليلة رأس السنة مع الأشباح وحدك، فالأمر قد يكون أكثر إثارة مما تتخيل."_
وقف مصطفى مذهولًا، ثم انفلتت منه ابتسامة ساخرة، مرّة، تحمل ألف معنى. أخرج محفظة عز المزيفة التي سرقها، ونثر الأوراق الخضراء، ليجد على إحداها حكمة مكتوبة بخط صغير:
**(حكمة اليوم: أحيانًا، يكون أمهر لص هو أفضل معلم في فن الخداع! كن حذرًا ممن يضحك على أشباحك!)**
نظر مصطفى إلى السماء التي اكتست بظلام الليل، ثم إلى الهاتف الفاخر المعطل في يده، ولم يدرِ هل يضحك على سذاجته أم على عبقرية عز، أم يبكي على حظه الذي يرقص معه رقصة الأقدار المجنونة هذه. لقد تعلم درسًا قاسيًا ومضحكًا في آنٍ واحد، درسًا بهاتف مسروق، ومائتي جنيه غير متوقعة، ونصيحة ساخرة عن الاحتفال مع الأشباح.
كان عليه أن يعود إلى شقته، ليقضي ليلة رأس السنة وحيدًا بالفعل، ولكن هذه المرة، بصحبة هاتفٍ فاخرٍ معطل، ودرسٍ جديدٍ في الخداع، وشعور غريب بأن هذه الليلة... لم تنتهِ بعد.
**»»»»»»»»»»»»**
**يتبع**
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕