ديوان. الأستاذ أثر. بقلم. الزهره العناق
♕♕♕♕♕♕
ديوان
.... الأستاذ أثر ....
الجزء الأول:
حين يكون الصمت معلما
ليس كل من وقف أمام السبورة أستاذا
وليس كل من شرح المنهج قد مس روح الطلبة
الأستاذ الحقيقي لا يحتاج إلى صوت مرتفع لكي يوقظ الوعي أو يربي أجيالا،
يكفي حضوره، وذاك النور الذي ينسل من عينيه دون أن يتكلم
الأستاذ هو الذي يعلمك كيف تفكر قبل أن تجيب.
يعلمك أن الخطأ بداية بصيرة، وأن الخوف من السؤال هو موت المعرفة.
الأستاذ هو الذي لا يراك كما أنت، بل ماذا يمكنك أن تكون لو صدقت نورك و بنيت شخصيتك.
الأستاذ الحقيقي لا يمر في حياتك مرور العابرين
بل يترك في الذاكرة رفوفا كاملة لا تبعثرها الأيام
الأستاذ هو المرشد و الموجه و المربي و المكون و الأب الثاني
كم من أستاذ غاب جسده لكن بقي أثره يشعل الدروس
و كم من كلمة قالها في هامش الحصة صارت في قلب الحياة عنوانا
—
الجزء الثاني:
الطباشير جسر الحياة
لم يكن الطباشير يوما مجرد مسحوق يلتصق بالسبورة
بل كان جسرا من نور، يرسم به الأستاذ طريقا للآخر بكل الألوان.
كل خط يرسمه كان خريطة، وكل دائرة كان قلبها فكرة، وكل سهم هو اتجاه نحو النهوض و النجاح.
كان حين يشرح لا يشرح فقط الدرس،
بل يحرك الهواء حوله، كأن الأبجدية تبعث من رمادها
وكأن المعنى ينتظر أن ينطقه هو ليولد.
لم يكن يكتب الدرس بل ينقشه في ذاكرة الدهر،
وكان كل طالب عنده صفحة بيضاء لا يخدشها، بل يزرعها بالرفق حتى تزهر.
ربما لم يكن يملك ثروة، ولا شهرة
لكنه امتلك كنزا ثمينا لا يراه إلا من أضاءت روحه به.
امتلك أثره، و هذا كاف ليعيش ألف عمر بعده.
كان الطباشير إذا تفكك بين أصابعه، ترك شيئا من روحه في كل ذرة تتساقط على الأرض
وكأنها تقول: هذا الغبار ليس غبارا يتطاير في السماء عبثا، بل خلاصة عمر ينبت الحياة في صمت.
—
الجزء الثالث:
في غياب الأستاذ، لا يغيب الأثر
إذا غاب الأستاذ عن الكرسي، اختل توازن الصباح
و غاب صوته عن الأروقة، لكن صدى حكمته بقي كأن الجدران تحفظه عن ظهر حب.
لم تعد الحصة كما كانت، صار الدفتر فارغا، و كأن الحبر يحن إلى من علم أصابعه كيف يكتب.
غاب الجسد، لكن الأسئلة التي أيقظها فينا لا تزال تحرسنا
و الإجابات التي لم ينطق بها، نسمعها كلما سكتنا بصدق
الأثر الحقيقي لا يغيب لأنه لم يكن ماديا،
كان في تلك النظرة التي منحتنا الثقة، في تلك العبارة التي أعادت لنا تشكيل يومنا، في ذلك السكوت الذي علمنا أكثر من الكلام
الأستاذ لا يقاس بعدد الشهادات التي وقعها
بل بعدد الأرواح التي مسها فلم تعد كما كانت.
في غيابه، أدركنا أن الأثر هو الحضور حين يغيب الحضور
وأن الإنسان لا يخلد بصورته، بل بما زرعه فينا دون أن يطالب بشيء.
—
الجزء الرابع:
أستاذ علمني أن أكون أنا
لم يطلب مني أن أقلده، ولم يعجب بالصوت الذي يشبه صوته
كان يرى في اختلافنا بذور نجاة، ويعامل التميز كما يعامل الجمال النادر، لا كما يعامل الخطأ
قال لي مرة:
"لا تكن نسخة من أحد، فالنسخ لا تعيش طويلا، وتموت قبل أن تجرب الحياة"
وحين كتبت فكرة غير مألوفة، لم يصحح لي الخطأ، بل ابتسم كأنه اكتشف بداية نجم.
كان يؤمن أن التعليم لا يعني قول "افعل كما أفعل"
بل يعني: "ابحث عنك فيك، ثم كن ذاك الذي وجدت"
غص بذاتك، و كن أنت كما تريد أنت، و ليس كما يريدك الآخر أن تكون.
علمني أن أفكر بصوتي، أن أكتب دون أن أستأذن، أن أختار طريقي و إن كان بلا لافتة.
أستاذي لم يكن صانع قوالب
بل كان كاسرها الأول، وصوتها الحر.
وإن كان من حولي يطلبون مني أن أكون مثالا
فهو من علمني أن أكون داتا، لا ظلا.
لذلك، حين أنجح، أراه واقفا في عمق الخطوة
وحين أتعثر، أسمع صوته يقول:
"هكذا تتعلم، لا تقلق، هذا أنت حين تجرؤ أن تكون"
ــ
الجزء الخامس:
حين تحولت الحصة إلى حياة
لم تكن الحصة عنده وقتا بين جرسين، بل كانت عالما صغيرا، ننسى فيه ضيق الحياة و نتسع دون أن نشعر.
كان يفتح الدفتر، لا ليقرأ، بل ليصنع جسورا بيننا وبين أنفسنا
وكان إذا شرح فكرة، جعلنا نشعر أن الكون بأكمله يستمع معنا.
لم يكن يحدثنا عن النظريات فقط، بل كان يربطها بشيء في أعماقنا، شيء لا نراه، لكنه يعرف كيف يوقظه.
علمنا كيف نرى الجمال في المعادلة، والدهشة في السؤال، والصدق في الصمت.
وكانت طريقته في الكلام تشبه صلاة
هادئة، عميقة، تنقي الروح دون أن تفرض.
كل شيء أثناء حصته كان حيا.
اللوح يتنفس، القلم يحلم، ونحن نستفيق من غفلة لم نكن نعرف أننا فيها
وبعد كل حصة، لم نكن نخرج بدرس مكتوب
بل بحياة جديدة و بطريقة مختلفة لرؤية العالم، أو لرؤية أنفسنا فيه.
ذلك هو الأستاذ الحقيقي
من يجعل من كل حصة عمرا صغيرا نعيش فيه بصدق، لا مجرد وقت نمضيه مع بعض.
—
الجزء السادس:
من ربى الكلمة قبل أن ينطقها
لم يكن يتحدث كثيرًا، لكن حين يتكلم، تشعر أن الكلمات جاءت إليه بعد أن تربت جيدًا.
كل كلمة تخرج من فمه كانت كأنها قد اعتذرت من القسوة، و تطهرت من الروتين، تعلمت كيف تمر إلى القلب دون أن تؤذي.
لم يكن يستعجل الكلام، بل يترك للصمت حقه،
وكأن بين الكلمة والصمت عهدا لا يخل به إلا الجاهلون
كان يختار ألفاظه كما تنتقى الجواهر، لا يرفع صوته ليفرض فكرته،، بل يلقيها بهدوء فتجلس حيث لا تصل الضوضاء.
لم يكن في درسه تكلف، ولا في منطقه هضم للحق،
بل صدق يترقرق، كأنه نبع من بئر داخلي لا يعرف الجفاف.
كان يربي الكلمة قبل أن يطلقها، يزرعها في الأرض الخصبة لفكره،
و يحرسها بصبر، ثم يرسلها حين تنضج، لا حين تطلب.
ومن شدة ما عظم المعنى، صرنا ننتظر عباراته كما ننتظر المطر
ليس لأنها نادرة، بل لأنها تحمل الحياة.
ذلك هو الأستاذ الذي لا يعلمنا فقط كيف نقول كلمة ونعبر عن إحساس، بل كيف نصمت، وكيف نختار متى تنطق الكلمة وأين تضع خطاها.
—
الجزء السابع:
حين صارت الإنسانية منهجا
لم يكن يكتفي بتدريس المادة، بل كان يدرسنا أنفسنا
كان يرانا قبل أن نرفع أيدينا، ويسمع وجعنا بين السطور قبل أن نعبر عنه.
كان إذا دخل الفصل، دخل معه شعور بالطمأنينة
كأننا لسنا طلابا فقط، بل أمانات بين يديه يحسن حملها.
لم يحرج يوما، ولم يرفع حاجبه سخرية من خطأ أحد.
كان يرى في الضعف بداية القوة، وفي كل تلميذ حكاية تستحق أن تفهم لا أن تدان.
وحين يشرح الدرس، لم يكن يقرأ من كتاب،
بل من قلبه، من ذاكرته المملوءة بالتجارب، من قيم نادرة لا تعلم بالمدارس و لا تسجل على الورق.
كان يعلمنا أن العلم بلا إنسانية مجرد طغيان جديد،
وأن الذكاء الحقيقي هو أن تكون رحيما، لا أن تتفوق في الأرقام
علمنا أن الكلمة الطيبة تسبق الشهادة، وأن الاحترام لا يعلق في صورة، بل يمارس في كل لحظة، حتى في أدق التفاتة.
الأستاذ الذي يجعل من الإنسانية منهجا، لا يحتاج لمنهج
لأنه حين يمر، نتعلم حتى ونحن لا ندري أننا نتعلم.
ـــ
الجزء الثامن:
في حضرته كنا نرتقي بصمت
لم يكن يطلب منا أن نصمت، لكننا كنا نصمت طواعية,
ليس خوفا، بل هيبة لهيئته التي تفيض وقارا، و احتراما لحضوره الذي يشبه ضوء الفجر، خافتا لكنه يمس القلب كله.
في حضرته، الكلمات تخلع ضجيجها, والأرواح تجلس متأدبة، كأنها على موعد مع لحظة نادرة من النقاء.
لم يكن يسأل كثيرًا، بل كان يسكن فينا بأسئلته الصامتة
وحين ينظر، نعرف أن الصدق هو الجواب الوحيد الذي لا يحتاج إلى مراجعة
في حضرته، كانت الفوضى تتوارى، وكان العقل يستيقظ، والوجدان يتهذب، كأننا نتحول من تلاميذ إلى نسخ أولى من ذوات أفضل
لم يكن يعنف، لكن كلماته الطيبة إذا لمست الخطأ، جعلت الخطأ يعتذر دون أن يهان.
وكان إذا أثنى، شعرت أن الكون يحتفل بك دون صوت.
في حضرته، كنا نرتقي بصمت دون تكليف و لا أمر، فقط لأن النور لا يجبر أحدًا، بل يجعلهم يمشون نحوه باختيارهم.
ذلك هو الأستاذ الذي لم يحتاج إلى سلطة،
لأنه صنع من الاحترام جاذبية، ومن حضوره سلما نحو الأعلى
—
الجزء التاسع:
حين زرع فينا أجنحة
لم يزرع فينا فقط معارف و حروفا, بل زرع أجنحة،
أجنحة لا ترى، لكنها ترفعنا عن الأرض حين نمشي، و تدعونا لنحلق فوق قيود الخوف والشك.
علمنا أن نحلق لا لنبتعد عن الواقع، بل لنراه من علو، لندرك أن حدودنا لا تنتهي حيث نعتقد، بل تتسع مع كل خطوة شجاعة
كان يشجعنا على طرح السؤال دون تردد أو خجل، ليس لأن الإجابة تكفي، بل لأن الفضول هو بداية كل حرية.
وقال لنا ذات يوم:
"من لا يجرؤ على الطيران يبقى محاصرا في قفص الجهل"
فكانت أجنحتنا تلك التي كنا نبنيها معه، ببطء لكن بإصرار، رغم كل عثرات الطريق.
لم يكن يمنحنا الأمان فقط، بل يمنحنا القوة لنصنع أماننا بأنفسنا
وهكذا، حين نطير، نطير ونحن نحمل أثره معنا، في قلوبنا وعقولنا وأرواحنا
أستاذنا لم يكتف بأن يعلمنا كيف نقرأ ونكتب، بل علمنا كيف نطير، وكيف نكون أحرارا حقا.
—
الجزء العاشر:
الأستاذ — نهر لا يجف
هو نهر لا يجف، ينساب في القلوب والعقول بلا انقطاع،
يغذي عطشنا للمعرفة، ويزرع فينا بذور الأمل والوعي.
هو الذي لا تعرف نسماته نهاية، تلمسها في كل نجاح، في كل حلم يتحقق، في كل فكرة تولد.
يحمل على أكتافه رسالة ليست مجرد مهنة، بل هي عهد وعطاء بلا حدود،
الأستاذ هو الذي يبني أجيالاً لا تقاس بعدد الدروس،
بل بعمق الأثر الذي ينقشونه في دنياهم.
بفضله، صرنا نرى العالم بعيون مختلفة، أوسع، أعمق، وأرقى،
وما زال أثره ينبض فينا كنبض القلب.
شكرًا للأستاذ العظيم:
يا من بيديك ارتقى القلب و العقل
سقيتنا من علمك، و كنت لنا المثال
زرعت فينا بذور الخير و الإخلاص
وصنعت من الأمل دربا ووصال
أستاذنا، يا نبض الفجر الباقي
بفضلك نحيا، و بنورك لنا المآل
شكراً لك، يا حامل رسالة الحياة
منك بدأنا و بك نحقق الأحلام وكل الآمال
✍️ الزهرة العناق ⚡
10/04/2025
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕